فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{إثم كبير} بالثاء المثلثة: حمزة وعلي. الباقون: بالباء. {قل العفو} بالرفع أبو عمرو. الباقون: بالنصب. {لأعنتكم} بغير همز: روى أبو ربيعة عن أصحابه. وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب، والهمز ليدل على أصل الكلمة.

.الوقوف:

{والميسر} ط {للناس} ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيهًا على أن بيان الثانية أهم من الأولى {من نفعهما} ط {ينفقون} ط {العفو} ط {يتفكرون} لا لتعلق الجار. {والآخرة} ط {اليتامى} ط {خير} ط {فإخوانكم} ط {المصلح} ط {لأعنتكم} ط {حكيم} O {يؤمنّ} ط لأجل لام الابتداء بعده {أعجبتكم} ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان {يؤمنوا} ط {أعجبكم} ط {إلى النار} ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل {بإذنه} ج لأن جملة: {والله يدعو} تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله: {ويبين آياته} من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل {يتذكرون} O. اهـ.

.سبب النزول:

قال البغوي:
نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فأنزل الله هذه الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، والمشروع في بيانها من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى يَسْئلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 178] إلى آخر السورة، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطًا للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ، وقد تناسقت في هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعًا عن الحل والحرمة.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: نزلت في الخمر أربع آيات:
نزل بمكة قوله تعالى: {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم إن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل فيها قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسًا منهم، فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] فقل من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرًا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزل: {إِنَّمَا الخمر والميسر} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا يا رب، قال القفال رحمه الله: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج، وهذا الرفق، ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر، فكان المنع من ذلك منعًا من الشرب ضمنًا، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو؟ ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر.
أما المقام الأول: في بيان أن الخمر ما هو؟ قال الشافعي رحمه الله: كل شراب مسكر فهو خمر، وقال أبو حنيفة: الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد، حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها: ما روى أبو داود في سننه: عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمر ما خامر العقل، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها: أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمرًا وثانيها: أنه قال: حرمت الخمر يوم حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها: أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب، ولا شك أن عمر كان عالمًا باللغة، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره.
الحجة الثانية: روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا» والاستدلال به من وجهين أحدهما: أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني: أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب، فوجب أن يكون ثابتًا في هذه الأشربة، قال الخطابي رحمه الله: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصًا لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة، فحكمها حكم هذه الخمسة، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
الحجة الثالثة: روى أبو داود أيضًا عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» قال الخطابي: قوله عليه السلام: «كل مسكر خمر» دل على وجهين أحدهما: أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر، وكان مسمى الخمر مجهولًا للقوم حسن من الشارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية، أو على سبيل أن يضع اسمًا شرعيًا على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما.
والوجه الآخر: أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة، وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمرًا فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازًا على المشابهة في الحكم، الذي هو خاصية ذلك الشيء.
الحجة الرابعة: روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» قال الخطابي: البتع شراب يتخذ من العسل، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد لقول من قال: إن القليل من المسكر مباح، لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس، فيدخل فيه القليل والكثير منها، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله.
الحجة الخامسة: روى أبو داود عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
الحجة السادسة: روي أيضًا عن القاسم عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» قال الخطابي: الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب.
الحجة السابعة: روى أبو داود عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر، وهو حرام.
النوع الثاني: من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات، قال أهل اللغة: أصل هذا الحرف التغطية، سمي الخمار خمارًا لأنه يغطي رأس المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، من وهدة وأكمة، وخمرت رأس الإناء أي غطيته، والخامر هو الذي يكتم شهادته، قال ابن الأنباري: سميت خمرًا لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، يقال: خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير:
هنيئًا مريئًا غير داء مخامر

ويقال خامر السقام كبده، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساترًا للعقل، كما سميت مسكرًا لأنها تسكر العقل أي تحجزه، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمرًا إذا ستره للمبالغة، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس، وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتًا للغة بالقياس، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات، ومسمى الصوم هو الإمساك، ويثبتونه بالاشتقاقات.
النوع الثالث: من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر، أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما: هذه الآية والثانية: آية المائدة والثالثة: وردت في السكر وهو قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.
النوع الرابع: من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذًا قالا: يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل، مذهبة للمال، فبين لنا فيه، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل، فوجب أن يكون كل ما كان مساويًا للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمرًا وإما أن يكون مساويًا للخمر في هذا الحكم.
النوع الخامس: من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء في الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} [المائدة: 91] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر، وهذا التعليل يقيني، فعلى هذا تكون هذه الآية نصًا في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر، وإن لم يكن كذلك فلابد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر، وكل من أنصف وترك العناد، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها: قوله تعالى: {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحًا لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
والحجة الثانية: ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها، وقال: اسقوني، فقال العباس: ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا؟ فقال: ما تسقي الناس، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه، فقطب وجهه ورده، فقال العباس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم، فقال: ردوا علي القدح، فردوه عليه، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب، وقال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متنها بالماء.
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص، ولأن اغتلام الشراب شدته، كاغتلام البعير سكره.
الحجة الثالثة: التمسك بآثار الصحابة.
والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} نكرة في الإثبات، فلم قلتم: إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة، أو مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلًا إلى الحموضة، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم، فلذلك قطب وجهه، وأيضًا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.
المقام الثاني: في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول: أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى} [الأعراف: 33] فكان مجموع هاتين الآيتين دليلًا على تحريم الخمر الثاني: أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث: أنه تعالى قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.
فإن قيل: الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم، بل تدل على أن فيه إثمًا، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم: إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حرامًا؟.
قلنا: لأن السؤال كان واقعًا عن مطلق الخمر، فلما بين تعالى أن فيه إثمًا، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات، فكان شرب الخمر مستلزمًا لهذه الملازمة المحرمة، ومستلزم المحرم محرم، فوجب أن يكون الشرب محرمًا، ومنهم من قال: هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر، واحتج عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني: لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة؟ الثالث: أنه تعالى أخبر أن فيهما إثمًا كبيرًا فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلًا ما داما موجودين، فلو كان ذلك الإثم الكبير سببًا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.
والجواب عن الأول: أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرمًا، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعًا من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.
والجواب عن الثاني: أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر، والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونًا وطمأنينة.
والجواب عن الثالث: أن قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب. اهـ.